كلمة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حول التكوين التأهيلي للمسؤولين القضائيين الجدد في الإدارة القضائية

حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛

لعل تهنئتكم بالثقة الملكية الغالية واجبة قبل أي كلمة أخرى في هذه المناسبة، التي تعتبر الأولى، التي نلتقي فيها منذ تقلدكم مهام المسؤولية القضائية على المحاكم أو على النيابات العامة لديها. وإن المجلس الذي يَعتبر كسبكم للثقة الملكية ثمرةً من ثمار جهوده المتواصلة لتطوير الشأن القضائي، ويبارك لكم نيلكم لهذه الثقة، بما أبنتم عنه من جهد وانضباط مهني، وكفاءة عالية، وما تحليتم به من أخلاق حميدة، يَنْتَظِرُ منكم المزيدَ من الوفاء للأخلاقيات القضائية، والتفاني في العمل، والمزيد من النجاعة. وإن السلطة القضائية تنتظر منكم كسب التحديات التي تواجه القضاء ومنظومة العدالة في هذه المرحلة. وهي تحديات صعبة وكثيرة .. ولكنكم قادرون على تذليل الصعوبات، وتجاوز الإشكاليات .. وبذلك ستؤكدون استحقاقكم للثقة التي وضعها فيكم جلالة الملك رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتخدمون بلدكم ومواطنوكم وتفون بالتزاماتكم تجاههم، بما هو جدير بهذا الوطن الذي أكسَبَنَا عِزَّةً وشرفاً .. ولمواطنيه الذين يرتفعون بوفائهم وولائهم لمقدساتِنَا كالمنارات الشامخة. ويستحقون منا جميعاً – نحن القضاة، أن نبني لهم نظاماً قضائيا يضمن الحقوق ويحمي الحريات ويكرس الأمن القضائي، ويدعم الاستقرار والاستثمار، بِعَدْلِ أحكامه ونجاعة إجراءاته وبساطة مساطره وسهولة الولوج إليه.

السيدات والسادة المسؤولون القضائيون؛

الكثيرون من بينكم يتقلدون مسؤولية التسيير القضائي والتدبير الإداري للمحاكم لأول مرة، رغم التجربة المهنية الطويلة لبعضهم، كقضاة للحكم أو للنيابة العامة.

ولا بدَّ أن تعلموا أن تسيير المحاكم والنيابات العامة
لا يتوقف فقط على التمَيُّز في ممارسة المهام القضائية، رغم أن هذا التمَيُّزَ يساعدُ المسؤول في بعض جوانب التأطير المهني والمواكبة العملية للقضاة والنواب. ولكن الإدارة القضائية تتطلب مهارات أخرى، ربما لم تتعلموها في معهد القضاء. ولم يُتَح للبعض منكم ممارستها ولو بكيفية عرضية خلال مسارهم القضائي .. لارتباطها بمجموعة من المهام المختلفة من بينها :

–    مهامٌ ذاتِ طبيعةٍ قضائية، تتعلق بتدبير الإجراءات القضائية المرتبطة بالدعاوى والشكايات والمنازعات وتعتبر مؤثرة في سيرها. مثلَ حُسْنِ سير الاستدعاءات وتنفيذ مقررات الخبرة والتبليغ والتنفيذ القضائي وغيرها؛

–    ومهامٌ ذاتِ طبيعةٍ إدارية بنُكْهَة إنسانية، ترتبط بعَلاقاتكم مع المحيط المهني. وتستلزم منكم اكتساب الآليات الملائمة للتعامل مع رؤسائكم ومرؤوسيكم وزملائكم، ومع المنتسبين للمهن القضائية، ومع المتقاضين بكل أصنافهم، صاحبُ الحق ومدعي الحق، وحاملُ الحقيقة ومن يدعيها، والمكلوم والمظلوم، والمعتدي والمعتدَى عليه .. كلهم ينتظرون منكم تلبية رغباتهم وطلباتهم .. وستكونون مدعوين للاستماع إليهم والاهتمام بتظلماتهم والتعامل الإنساني معهم، والانتصارَ في الأخير لمبادئ العدالة والحق والإنصاف وحدها؛

–    كما سيُصْبِح من مهامكم تدبيرُ بعض الوضعيات الإدارية للقضاة والموظفين، وتقييم أدائهم وسلوكهم، وتحفيزهم للعمل وتعبئة طاقاتهم لمزيد من النجاعة والفعالية في الأداء المهني؛

–    وستباشرون كذلك مهاماً أخرى ترتبط بتدبير الموارد المادية للمحاكم ووضعها رهن إشارة المستعملين. ومن ذلك كل وسائل العمل المادية، والأدوات اللوجستيكية والمعلوماتية المسخرة بين يديكم؛

–    كما أنكم ستكونون مدعوين لحل النزاعات وتدبير الخلافات بين مساعديكم، أو بينهم وبين مرتادي المحاكم – فضلاً عن تدبير المراسلات الإدارية والشكايات والتظلمات .. وغيرها من المهام.

إنها مهام مختلفة ومتنوعة. بعضها جديد عن البعض منكم ممن لم يكتب له ممارسة مهام المسؤولية القضائية من قبل. وهي مهامٌ مؤثرة جداً في مهمتكم الأساسية، باعتبار كل منكم قائداً لفريق، لن يفلح أداؤه إلاَّ بتحقيق الانسجام الكامل والتام بين أعضاء الفريق، وتعبئتهم لإخراج كل ما في طاقتهم من جهد، وبذله في تنفيذ برنامج محكم الصياغة واضح المعالم، يؤدي إلى بلورة الهدف الأساسي وهو دعم الثقة في القضاء. هذه الثقة التي قال عنها جلالة الملك في الرسالة السامية لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء السابق يوم 12 أبريل 2004 أنه “لا يمكن للقضاء أن يحقق المكانة الجديرة به، إلا حين يكتسب ثقة المتقاضين، التي لا تتحقق إلاَّ من خلال ما يتحلى به القضاة من نزاهة وتجرد واستقامة واستقلال عن أي تأثير أو تدخل”.

حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛

سبق لي أن خاطبت زملاءكم سنة 2017 بأن “دور المسؤول القضائي يُعتبر حاسماً في سلامة بناء أركان السلطة القضائية الجديدة. وأن المرحة لا تحتمل تأخر المسؤولين في اتخاذ القرارات الحاسمة فيما يخص تدبير أمور محاكمهم .. وأنها تحتاج إلى نساء ورجال من المسؤولين يحرصون على محاكمهم كما يحرصون على بيوتهم، ويرْعَوْنَ مرؤوسيهم كما يَرْعَوْنَ أبناءهم وبناتهم، بالتربية الصالحة والحرص اللازم على الاستقامة والنزاهة والتفوق”[1].

وأجدني اليوم مضطراً لتذكيركم أنكم تمثلون مؤسسات السلطة القضائية في دوائر نفوذكم، وأن القضاء أمانة في أعناقكم في مناطقكم. وأن نجاحه منسوب لكم، وإخفاقاته قد تلصق بكم. فأنتم بحكم صلاحياتكم تضطلعون بأدوار التنظيم والتأطير بالمحاكم، كما تُشْرِفُون على سير العمل بها، وتراقبون أداء القضاة والموظفين المنتسبين لها، بما تملكونه من ملكات التحسيس والإرشاد والتوجيه نحو الأهداف العادلة، وترسمونه من توجهات ناجعة وأهداف صالحة.

أنتم عَيْنُ السلطة القضائية التي ترصد الخير وتُعَظِّمُه، وتتابع الإخلالات فتقوِّمُها وتُصْلِحها؛

أنتم الرقباءُ على التطبيق العادل للقانون، والمسؤولون عن نجاعة الإجراءات القضائية؛

أنتم حماة النظام العام، ورعاة الحقوق والواجبات، وحَرَسُ المنظومة القضائية ..

وأنتم المسؤولون الأوائل على حسن سير القضاء بدوائر نفوذ المحاكم التي تشرفون عليها. وعلى تنفيذ استراتيجية المجلس الأعلى للسلطة القضائية في الحفاظ على استقلال القضاء والرفع من النجاعة القضائية، وتحديث المنظومة العدلية وضمان شروط المحاكمة العادلة، وتأهيل الموارد البشرية، والمساهمة في تخليق القضاء.

فاعلموا حضرات السيدات والسادة الفاضلات والفضلاء، أن ذلك لن يتأتى إلاَّ بامتلاككم لخصال إنسانية، وتَمَكُّنِكُم من آليات التدبير، وإدراكِكُم لمهارات التسيير والتأطير، وإتقانِكُم لأساليب الحوار والتشاور وبناءِ جسور التواصل والتفاهم، واتِّصافِكُم بالصدق والمصداقية والجدية، وتشبعكم بقيم العدالة والأخلاقيات القضائية. كما أن مهامكم الجديدة تتطلب منكم التوفر على خارطة طريق لتصريف الأعمال، مَبْنِيَةً على أهداف محددة وإجراءات شفافة، وتنسيق محكم بين مختلف الأطراف، قائم على فرض الاحترام الواجب وبناء الثقة المتبادلة بالإقناع، وبعث الروح بالحوافز الإنسانية والمهنية، وبالتواصل والحوار والإصغاء، والمبادرة السريعة لحل الإشكاليات، ودعم المبادرات الجيدة وتشجيعها.

حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛

كنتُ بتاريخ 10 أبريل 2019 قد خاطبت بعض زملائكم الذين استفادوا من تكوين مماثل لما نُقْدِمُ عليه اليوم، بأن المسؤول القضائي هو “بمثابة مسؤول عن مقاولة، يجب أن يتقن فن التسيير والتدبير، ويتابع مراحل الإنتاج”. وأكدت أن “مردودية المقاولة القضائية – بالنسبة للمسؤول عنها-، لا تتمثل في أرباح مالية واقتصادية، وإنما في المساهمة الإيجابية في حفظ الأمن والنظام العام بمختلف تجلياته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتقوية الثقة في نظام العدالة”.

وإنني اليوم ما زلت على اقتناع تام بأنكم بمثابة رؤساء “مقاولات”، يتعين عليكم أن تسعوا إلى التدقيق الداخلي لأداء “مقاولاتكم”، حتى تتعرفوا على مستوى أدائها ومنسوب الثقة فيها، وتتدخلوا لتقويم ما ينبغي تقويمه، وتحسين ما يجب تحسينه، حتى يكون التدقيق الخارجي لمحاكمكم إيجابيا.

أيتها السيدات والسادة؛

إن تشبيه المحكمة التي تسيرونها بالمقاولة، يراد به أن تتصرفوا أنتم المسؤولون القضائيون، بعقلية رؤساء المقاولات، يسعون دائما نحو الربح وضمان الاستمرارية. ورغم اختلاف المهام، وتباعد الصورة بين المحكمة والمقاولة، فإن مؤشرات نجاح المسؤول عن كل منهما واحدة، كلاهما يبحث عن تسويق منتوجه والحصول على فائدة مستمرة. وبلا شك فإن المسؤول عن المحكمة مسؤول عن أداء خدمات للمتقاضين تتم بمستوى من الجودة والنجاعة والشفافية، يرضى عنها المتقاضي. كما أن المسؤول عن المحكمة يسعى لزرع الثقة لدى المتقاضين ليحقق لهم الاطمئنان إلى العدالة والرضى بأحكامها. كما أن تحقيق رضى المتقاضين، يتطلب تحقيق جودة الخدمات القضائية، وأدائها في وقت معقول، وفي إطار إجراءات شفافة وواضحة، والوصول إلى هدف أساسي هو التطبيق العادل للقانون.

ولذلك فإنكم مدعوون إلى قيادة محاكمكم نحو أهداف العدالة والإنصاف، وتجهيز الملفات حتى يتم البت فيها في آجال معقولة. وهو ما يستدعي منكم القيام بجهود كبيرة للتغلب على إشكاليات التبليغ والتنفيذ، كي تصدر الأحكام في وقتها المعقول، وتصل الحقوق إلى أصحابها في أسرع الآجال. كما أنكم مدعوون لبذل أقصى الجهود في التأطير والتكوين وفي عقد حلقات للدرس والنقاش حول اجتهادات محكمة النقض، وتقديم مطالبكم المتعلقة بحاجيات القضاة في التكوين إلى المجلس لبرمجتها بما يخدم الاحتياجات الحقيقية لمنظومة العدالة. وتذكروا في هذا الصدد توجيهات جلالة الملك بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة يوم 09 أكتوبر 2021 حين اعتبر جلالته أن “نجاح أي خطة أو مشروع، مهما كانت أهدافه، يبقى رهيناً باعتماد مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. ويجب أن تعطي مؤسسات الدولة والمقاولات العمومية المثال في هذا المجال، وأن تكون رافعة للتنمية وليس عائقاً لها”.

كما أنكم مطالبون بدعم استقلالية القضاة في إصدار الأحكام في آجال معقولة، لا يكون فيها سلطان عليهم، إلا لصوت الضمير وقوة القانون. والمساهمة في تطوير العمل القضائي بدوائركم وتوحيده في انسجام مع المبادئ الراسخة المستخلصة من قرارات محكمة النقض. كما أننا ننتظر منكم التأسيس لأسرة قضائية تنصهر فيها كل المشاكل بالحوار والتواصل والثقة والنية الحسنة والاحترام المتبادل. وهي نفس القيم والتقاليد التي ستكون الحصن الحصين لحماية هذا البيت الوقور من الانزلاقات والتجاوزات التي لن نُطَبِّعَ معها أو نقبل بها أبدا داخل المنظومة القضائية.

 كما سأنتظر منكم التفاعل بكل إيجابية مع جميع مبادرات المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ومنها إعدادكم تقارير شاملة تعكس وضعية العدالة والقضاء بدوائركم، وتتضمن معطيات إحصائية مفصلة بشكل مضبوط، تبرز بشكل حقيقي كل العمل والنشاط المنجز وتبين نشاط وعمل كل قاض أو مستشار، سواء في المجال الإداري أو القضائي أو الثقافي
أو العلمي أو التواصلي. كما يجب أن تتضمن هذه التقارير رصداً موضوعياً للأعطاب الموجودة والمشاكل العالقة على مختلف المستويات البشرية والتنظيمية والقانونية والقضائية. وأن تتضمن مقترحاتكم للمجلس، بخصوص كل ما يتعلق بتطوير أداء القضاء ومنظومة العدالة. ولاسميا ما يتعلق بالتخليق والرفع من النجاعة وتحسين التدبير والتحديث والتأهيل.

 والأكيد أنكم ستولون هذه التقارير العناية اللازمة حتى يستفيد منها المجلس في بلورة استراتيجياته القادمة. وكونوا على يقين أن المجلس سيظل حريصاً على تتبع أدائكم ودعم جهودكم وتوفير المناخ الملائم لكم حتى تؤدوا رسالتكم في أحسن الظروف. كما أنكم ستلقون الدعم اللازم من مصالح وزارة العدل، التي نعمل معها سوية داخل الهيئة المشتركة للتنسيق في مجال الإدارة القضائية، بكثير من الانسجام وبأقصى حدود التفاهم، تستلزم مني أن أتقدم – من أجلها – بجزيل الشكر ووافر الامتنان للسيد وزير العدل الأستاذ عبد اللطيف وهبي وللمسؤولين بوزارته، الذين لا يدخرون وسعاً في دعم استراتيجية المجلس وتوفير حاجيات المحاكم.

كما أشكر السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة والسيد وزير العدل وإدارتيهما، وكذا إدارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، على المساهمة الفعالة في تنظيم هذه الدورة التكوينية، وعلى العناية الكبيرة التي بذلت في تهييئ الظروف المناسبة لها وتحديد برامجها ومحاورها بكل دقة ومسؤولية. وبناء علاقات تعاون مثمر وخلق أجواء سليمة للعمل الجاد المشترك ينعم فيها القضاة ومساعدوهم بروح الثقة والاطمئنان.

كما يسعدني أن أشكر السادة أعضاء المجلس والمسؤولين القضائيين والإداريين الذين سيتفضلون بتأطير هذه الدورة التكوينية الهامة. وهي مساهمة ترفع من قيمتهم وتثمن جهودهم المستمرة في خدمة العدالة، ويستحقون لأجلها كل الامتنان والعرفان.

واسمحوا لي أن أعبر لكل واحد منكم باسمه وصفته عن عظيم تقديري لكل الجهود والتضحيات التي تبذلونها يومياً وبشكل دائم من أجل حل المشاكل التدبيرية والتنظيمية والقانونية والقضائية، تضحيات تستغرق كل أوقاتكم وتؤدون ثمنها من صحتكم ومن أسركم، دون تشكي أو ضجر، مستهدفين من كل ذلك أداء الأمانة الثقيلة والبر بالقسم العظيم والوفاء بالعهد الراسخ مع وطنكم وملككم حفظه الله وسدد خطاه. وأرجو منكم أن تتفضلوا بتقديم امتناني الشخصي، وتقدير المجلس إلى كافة قضاة المملكة وإلى جميع الموظفين العاملين بها، لأجل ما يقومون به من عمل وما يبذلونه من جهد.

ويقيني تام وقناعتي كبيرة أننا جميعا سنكون في مستوى ثقة جلالة الملك وانتظارات المغاربة من قضائهم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى